اليوم، وفي الوقت الذي نعيش فيه ضمن عالم تحكمه الصيغ والاحتياجات، وتشكّل المساءلة والمراجعة النقدية – حتى لأقدس المقدّسات – السمة والأسلوب المعتمد، تحول الدين عند الكثيرين إلى “موضوع”، علينا معرفة نشأته وصدقية دعاويه، ومدى أحقيته وقدسية ما يدعو إلى قدسيته، بل علينا أن نسأل كل دين، ما هي القيم الحاكمة فيه بنحو فعلي؟
بمعنى آخر: ما هو الدين – الذي ندين به – في أي دين؟ هل هي الحقائق والتعاليم؟ هل هي الذات المحتاجة والمفتقرة إلى المعنى المتسامي؟ هل هو المتسامي؟ هل هو المؤسّس؟ أو الرسول؟ أو جهاز السلطة الدينية النافذة؟
وإذا كانت “تختلف وظيفة النص الديني من مجتمع إلى آخر، ففي بعض المجتمعات نجد النص الديني هو محور السلطة، ومصدر المعرفة، وضابط السلوك، ومحدد الرؤية الشاملة إزاء الكون وظواهره، وفي مجتمعات أخرى يتقلص هذا الدور إلى حد أدنى من إرشادات السكينة الروحية، والقواعد الأخلاقية.
غني عن القول: إن النصوص الدينية شأنها شأن كل السرديات الكبرى، ليست الوحيدة في ساحة التفاعل المجتمعي، حيث تزاحمها خطابات أخرى تسعى إلى الحد من دورها الاجتماعي، بل تقتص من قدسيتها أحيانًا.
إذا كان الأمر محكومًا بين دين وآخر بهكذا نحو من المغايرة، فهل من الصحيح أن تعمّم إشكاليات تقع في حاضرة دين معين، على دين آخر، ولا لشيء إلّا لأن كليهما اسمه دين؟
وإذا كانت الظروف المجتمعية وحقل التجاذب بين دين ما ومحيطه فرضت أسئلة وأحكامًا خاصة، فهل يمكن لنا طرح نفس الأسئلة والأحكام على ظروف مجتمع ديني آخر عند لمح أدنى تشابه في المعطيات؟ مثلًا: نحن نعلم ما للكنيسة من حاكمية كهنوتية على النص الإنجيلي، الأمر الذي دعا حركة الإصلاح الديني – في الغرب – إلى كسر تلك الحاكمية، وترجمت الإنجيل إلى اللغات القومية، والعمل على تأويل الإنجيل تأويلات مجازية، حتى أطلقت حرية القراءة، وقامت رياح العولمة فنقلت التعامل مع النص الإنجيلي إلى مدارك التعددية والنسبية الثقافية. في إطار سعي الكنيسة المسيحية الحثيث إلى تكييف أوضاعها ديناميًّا مع مطالب العولمة الثقافية.
وكان مدخل الكنيسة في ذلك هو التخلص من المركزية الغربية في قراءة الإنجيل، وحيث أقرّت بمشروعية القراءات المتعددة والقبول بالفوارق إلى حد التناقض أحيانًا، بل اعتبر البعض الأناجيل الأربعة نوعًا من التعدد الثقافي.
وهكذا أصبحت التأويلية الإنجيلية هي البحث عن معنى النص في سياق من الخبرات المعيشية، أي معرفة الإنجيل في السياق الثقافي والتاريخي لكل جماعةٍ مؤمنة.
تطلبت هذه المتغيّرات من الكنيسة المسيحية إعادة النظر إلى النص الإنجيلي، بل وإعادة النظر إلى النصوص السماوية الأخرى؛ إيمانًا بالوحدة المعرفية لهذه النصوص.
فهل النتائج الخاصة التي وصلت إليها المسيحية في نحو ونوعية القراءة أو القراءات المعلقة بها، ينبغي أن نعمّمها على بساط واحد من رياح العولمة لتشمل كل بقعة جغرافية بما في ذلك العالم العربي والإسلامي، وكل ديانة بما في ذلك الدين الإسلامي؟ مع وجود الفوارق المركزية التي نذكر منها على سبيل المثال:
أ. محورية النص الحرفي للقرآن الكريم؛ باعتبار كل حرف فيه منزّلًا من عند الله سبحانه؛ وهو ما يختلف عن الإنجيل أو الأناجيل.
ب. اعتماد العقيدة الإسلامية على الحقيقة الثابتة والمجردة المتعالية والمتسامية على الزمان؛ ودخول الإله في العقيدة المسيحية في حركة التاريخ والزمان.
ج. اعتبار الكلمة الفصل في المسيحية ممثلة بالكنيسة كمؤسسة كهنوتية، مما أوجب تجاذبًا بين الحتمية المتولدة منها؛ وبوادر الحتمية العلمية المتولدة من عصر النهضة والتي أنتجت صراعًا اضطرت معه اللغة الدينية – المسيحية إلى أخذ شكل متكيّف مع النسبية في الثقافة والاجتماع، مما أوقع بشيء من التعددية التي أخذت أشكالًا حادة أحيانًا.
بينما قامت اللغة الدينية – الإسلامية على فردية التدبّر والتعبد؛ كما وعلى مشروعية الاختلاف كواقع اجتماعي وإنساني ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (سورة الحجرات، الآية 13).
د. “اختلاف أمتي رحمة”[1] . حصول تطورات علمية وأدبية ومعرفية، وحركة تقنين وتشريع وتنظيم في الغرب فرضت نفسها على النفوذ الكنسي، وعلى منظومة القيم والثوابت المسيحية؛ رفعت – ولو على حساب الأبعاد المعنوية – حركة التطور الحضاري ووتيرتها في مجال الاقتدار السياسي، والاقتصادي، والتقني مما ألحق خلفه كل معطيات الواقع الغربي – بما فيه الديني. بل وتم إلحاق ما أسمي بـ “أطراف العالم”.
وهذا ما لم يحصل في عالمنا العربي والإسلامي، وبالتالي لم يقع في الدين عندنا ما وقع في الغرب. فالواقع هنا مختلف ومغاير لما عليه هناك – والدين هنا يشكل الروح النابض والقدّام الحي – ولو على الصعيد الشعبي… ومنظومة المعرفة والسياسة هناك إذا تخبطت، ففي كثير من الأحيان بسبب الابتعاد عن قيم الدين والتزاماته. الدين هنا هو السائد حتى ولو لم يأخذ السيادة؛ بينما هناك فإنما يتنفس برئة المحيط وحيثياته… لكن وعلى الرغم من كل ما مرّ وأوردنا فقد يطيب للكثيرين عرض الأسئلة والمشكلات على الإسلام بطريقة فيها الوفير من المبادرة على صعيد الأحكام.
ولقد قدّمت فرضيات قامت على نحت جملة من القواعد المعرفية، ومناهج القراءة للسرديات والنصوص الأدبية والدينية الإسلامية بنفس الكيفيات التي جرت مع النص الإنجيلي أو التوراتي.
ونشأ بين أصحاب الاهتمام بفلسفة الدين وعلم الكلام في بلادنا مصطلحات تعبّر عن نشوء فرق جديدة، تؤمن أحيانًا بـ “التعددية الدينية”، أو “الانحصارية الدينية”؛ وهي نفس المسميات التي يمكن لنا أن نجدها لدى علماء لاهوت مسيحيين.
الکاتب:الشيخ شفيق جرادي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء 1، الصفحة 765.