هذه الحركة الفريدة والمعجزیة للأمّة الإسلامیة وعشّاق الإمام الحسين علیهالسلام تُبشّر ببناء حضارة جدیدة وأسلوب جدید فی الحیاة. فقد ذُکر: «الإنسان لا یأتي من عالم التراب؛ بل یجب أن یبنى على ید عالم آخر ومنه یُخلق الإنسان من جدید». الأربعین قد حدّد لنا إلى حدّ ما نوعیة بناء حضارة أخرى وقدّم للبشریة قواعد ومعادلات جدیدة. فی هذه السنوات، یتحدث الجميع عن بناء الحضارة الإسلامیة، والثورة الإسلامیة جعلت من إقامة حضارة إسلامیة جدیدة فی هذا العصر، تمهیداً لإقامة الدولة المباركة المهدویة، غایتها القصوى. وقد ذكر سماحة الإمام الخامنئی مراحل بناء الحضارة الإسلامیة فی سلسلة متتابعة: الثورة الإسلامیة، النظام الإسلامی، الدولة الإسلامیة، المجتمع الإسلامی، والحضارة الإسلامیة.
إذا کنا فعلاً نرید أن نتقدّم نحو مدنیة جدیدة وبناء اجتماع آخر، فیجب أن نمتلك تصوّراً واضحاً وممیزاً لها. یعتقد بعض الناس أن الحضارة الإسلامیة شبیهة بالحضارة الغربیة السائدة، التی تشکّلت في الغرب بعد عصر النهضة، مع تخلی عن التعالیم الوحیة، وانتشرت رویداً رویداً فی أنحاء العالم. هذه الحضارة جلبت أدوات ومعدّات حديثة وتکنولوجیات متقدّمة وقدّمت قواعد الحیاة فی شؤون مختلفة، من اقتصادية، سیاسیة، ثقافیة، عسكریة، أمنیة، قانونیة وجزائیة، وعلمت الإنسان العصر الجديد أسلوب الحیاة. بعضهم یظنّ أن الحضارة الإسلامیة مثل الحضارة الغربیة، فقط خالیة من الشرك والكفر والظلم، ومزودة بالعبادة والصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة وتلاوة القرآن. أي أن نموذج التقدّم والتنمیة هو نفس دول العالم المتقدم، مع إضافة المسجد والمحراب والحوزة العلمیة ومراكز القرآن ووزارة الإرشاد والمنظمات الدعویة. وبالفعل، لا یُفرّقون جوهریاً بین المدنیة الإسلامیة والمدنیة الغربیة، ویطمحون إلى إقامة «الیابان الإسلامیة».
الحقیقة أنَّنا لم نتمكّن بعد من عرض صورة واضحة ومتمیزة لمجتمع إسلامی مثالي وتصویر حضارة قائمة على المعارف الوحیة، ونواجه تردّداً فی هذا المجال. وواقع الأربعین الغریب عرض بعض هذه التمییزات بشكل صریح ووضحها للعيان.
الحضارة الغربیة حضارة فردیة، مصلحة محور، ساعیة وراء الراحة والدنیا، تعرف الحیاة بین المهد واللحد فی ثمانین سنة فقط، ولا تهتم بالبداية والنهایة الحقیقیة للإنسان، وإذا تطرّقت لها فتطرحها اعتقاداً فردیّاً لا یؤثر على جودة الحیاة. الإنسان المتربی فی أجواء الحضارة الغربیة المعاصرة یسعى دائماً للمتعة والمصلحة الشخصیة، وتزداد تعلقاته بالدنیا وحبه لها، ویزداد حرصه وطمعه یوماً بعد یوم. الإنسان الغربی یرید الآخرين من أجل مصالحه ویحدد علاقاته وفق المنفعة المادیة. الإنسانية بمعناها الغربی أصبحت مساویة للربح والفردیة، والكرامة الإنسانیة معرفة بالاستجابة لرغباته الدنیاویة الدنیئة.
الأربعین قلبت هذه المعادلات وأظهرت ملحمة صریحة تتحدّى کل هویة الحضارة الغربیة. فی الأربعین، ضمن هذا الجمع الغفیر، هناك دوران فقط: الزائر والخادم، وبعضهم يجمع بین الدورین. لا الزائر مفهوم بالنسبة لنظرة العالم الغربی المادّية، ولا الخادم كذلك. الزائر یأتي من مئات أو آلاف الکیلومترات إلى زیارة غیر متوافقة مع أي قاعدة سیاحیة عالمیة، ولا توجد جاذبیة سیاحیة ظاهریة إلا المشقة والألم والعطش والحرارة والغبار والصعوبة وتقرّحات الأقدام وآلام العضلات والدموع والمصیبة والعزلة فی الصحراء. ومن لم یفهم معنى الحب، یفسّره جنوناً وضلالاً.
أما الخادم فهو أعجب؛ فهو یقدّم دخله السنوی، الذی حصّله بعرق الجبین والعمل الجاد، فی غضون عشرة أو عشرین یوماً إلى المزاد، ویتوسّل للآخرین لیقدّم لهم. یعطي کل ما یملكه من مال وعقارات وأموال وممتلكات وطعام للآخرین. من یعطي کل شيء من نفسه، یستثمر قواه الجسدیة فی خدمة الزائرین، من طهي الطعام وتوزیعه، وتنظیف المكان تحت أقدام الزائرین، وتدلیكهم، وتلمیع أحذیتهم، إلى من یبسط لهم الظل أو یروّحهم عن حرارة الشمس. یفتخر بغسل أقدام الزائرین وقبّلها، أو دعوته إلى منزله وتوفیر کل ما یملكه من أجل خدمتهم، ویفخر بأنه نجح فی تخصیص کل ثروته وممتلكاته لخدمة زائر الإمام الحسين علیهالسلام.












